سورة غافر - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (غافر)


        


الظاهر من أمر فرعون أنه لما بهرت آيات موسى عليه السلام انهد ركنه واضطربت معتقدات أصحابه، ولم يفقد منهم من يجاذبه الخلاف في أمره، وذلك بين من غير ما موضع من قصتهما، في هذه الآية على ذلك دليلان، أحدهما قوله: {ذروني} فليست هذه من ألفاظ الجبابرة المتمكنين من إنقاذ أوامرهم. والدليل الثاني: مقالة المؤمن وما صدع به، وأن مكاشفته لفرعون أكثر من مسايرته، وحكمه بنبوة موسى أظهر من توريته في أمره. وأما فرعون فإنما لجأ إلى المخرقة والاضطراب والتعاطي، ومن ذلك قوله: {ذروني أقتل موسى وليدع ربه} أي إني لا أبالي عن رب موسى، ثم رجع إلى قومه يريهم النصيحة والحماية لهم فقال: {إني أخاف أن يبدل دينكم}. والدين: السلطان، ومنه قول زهير:
لئن حللت بجوٍّ من بني أسد *** في دين عمرو وحالت بيننا فدك
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: وأن. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {أو أن}، ورجحها أبو عبيد بزيادة الحرف، فعلى الأولى خاف أمرين، وعلى الثانية: خاف أحد أمرين.
وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم والحسن وقتادة والجحدري وأبو رجاء ومجاهد وسعيد بن المسيب ومالك بن أنس: يُظهِر بضم الياء وكسر الهاء. الفسادَ نصيباً. وقرأ ابن كثير وابن عامر: {يَظهرَ} بفتح الياء والهاء {الفسادُ} بالرفع على إسناد الفعل إليه، وهي قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم والأعرج وعيسى والأعمش وابن وثاب. وروي عن الأعمش أنه قرأ: {ويظهرُ في الأرض الفساد} برفع الراء. وفي مصحف ابن مسعود: {ويظهر} بفتح الراء.
ولما سمع موسى عليه السلام مقالة فرعون-لأنه كان معه في مجلس واحد- دعا وقال: {إني عذت بربي وربكم} الآية. وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر ببيان الذال. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: {عذت} بالإدغام، واختلف عن نافع، وفي مصحف أبي بن كعب: عت، على الإدغام في الخط ثم حكى مقالة رجل مؤمن من آل فرعون وشرفه بالذكر، وخلد ثناءه في الأمم، سمعت أبي رضي الله عنه يقول: سمعت أبا الفضل الجوهري على المنبر وقد سئل أن يتكلم في شيء من فضائل الصحابة، فأطرق قليلاً ثم رفع رأسه وأنشد [عدي بن زيد]: [الطويل]
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه *** فكل قرين بالمقارن مقتد
ماذا تريدون من قوم قرنهم الله بنبيه صلى الله عليه وسلم وخصهم بمشاهدته وتلقي الوحي منه؟ وقد أثنى الله على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسره، فجعله الله تعالى في كتابه وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر، وأين هو من عمر بن الخطاب رضي الله عنه جرد سيفه بمكة وقال: والله لا عبد الله سراً بعد اليوم.
وقرأت فرقة: {رجْل} بسكون الجيم، كعضد وعضد، وسبع وسبع، وقراءة الجمهور بضم الجيم واختلف الناس في هذا الرجل، فقال السدي وغيره: كان من آل فرعون وأهله، وكان يكتم إيمانه، ف {يكتم} على هذا في موضع الصفة دون تقديم وتأخير، وقال مقاتل: كان ابن عم فرعون. وقالت فرقة: لم يكن من أهل فرعون. بل من بني إسرائيل، وإنما المعنى: وقال رجل يكتم إيمانه من آل فرعون، ففي الكلام تقديم وتأخير، والأول أصح، ولم يكن لأحد من بني إسرائيل أن يتكلم بمثل هذا عند فرعون، ويحتمل أن يكون من غير القبط، ويقال فيه من آل فرعون، إذ كان في الظاهر على دينه ومن أتباعه، وهذا كما قال أراكة الثقفي يرثي أخاه ويتعزى برسول الله صلى الله عليه وسلم: [الطويل]
فلا تبك مْيتاً بعد مْيت أجنه *** علي وعباس وآل أبي بكر
يعني المسلمين إذ كانوا في طاعة أبي بكر الصديق.
وقوله: {أن يقول} مفعول من أجله، أي لأجل أن يقول: وجلح معهم هذا المؤمن في هذه المقالات ثم غالطهم بعد في أن جعله في احتمال الصدق والكذب، وأراهم أنها نصيحة، وحذفت النون من: {يك} تخفيفاً على ما قال سيبويه وتشبيهاً بالنون في تفعلون وتفعلان على مذهب المبرد، وتشبيهاً بحرف العلة الياء والواو على مذهب أبي علي الفارسي وقال: كأن الجازم دخل على يكن وهي مجزومة بعد فأشبهت النون الياء من يقضي والواو من يدعو، لأن خفتها على اللسان سواء.
واختلف المتأولون في قوله: {يصبكم بعض الذي يعدكم} فقال أبو عبيدة وغيره: {بعض} بمعنى كل، وأنشدوا قول القطامي عمرو بن شييم: [البسيط]
قد يدرك المتأني بعض حاجته *** وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقال الزجاج: هو إلزام الحجة بأيسر ما في الأمر، وليس فيه نفي إضافة الكل. وقالت فرقة، أراد: يصبكم بعض العذاب الذي يذكر، وذلك كاف في هلاككم، ويظهر إلي أن المعنى: يصبكم القسم الواحد مما يعد به، وذلك هو بعض ما يعد، لأنه عليه السلام وعدهم إن آمنوا بالنعيم وإن كفروا بالعذاب فإن كان صادقاً فالعذاب بعض ما وعد به. وقالت فرقة: أراد ببعض ما يعدكم عذاب الدنيا، لأنه بعض عذاب الآخرة، أي وتصيرون بعد ذلك إلى الباقي وفي البعض كفاية في الإهلاك، ثم وعظهم هذا المؤمن بقوله: {إن الله لايهدي من هو مسرف كذاب} قال السدي: معناه: مسرف بالقتل. وقال قتادة: مسرف بالكفر.


قول هذا المؤمن: {يا قوم لكم الملك اليوم} استنزال لهم ووعظ لهم من جهة شهواتهم وتحذير من زوال ترفتهم ونصيحة لهم في أمر دنياهم.
وقوله: {في الأرض} يريد في أرض مصر وما والاها من مملكتهم. ثم قررهم على من هو الناصر لهم من بأس الله، وهذه الأقوال تقتضي زوال هيبة فرعون، ولذلك استكان هو ورجع يقول: {ما أريكم إلا ما أرى} كما تقول لمن لا تحكم له.
وقوله: {أريكم} من رأى قد عدي بالهمزة، فللفعل مفعولان أحدهما الضمير في {أريكم} والآخر ما في قوله: {إلا ما} وكأن الكلام أراكم ما أرى، ثم أدخل في صدر الكلام {ما} النافية وقلب معناها ب {إلا} الموجبة تخصيصاً وتأكيداً للأمر، وهذا كما تقول: قام زيد، فإذا قلت: ما قام إلا زيد أفدت تخصيصه وتأكيد أمره. و{أرى} متعدية إلى مفعول واحد وهو الضمير الذي فيه العائد على {ما}، تقديره: إلا ما أراه، وحذف هذا المفعول من الصفة حسن لطول الصلة.
وقرأ الجمهور: {الرشاد} مصدر رشد، وفي قراءة معاذ بن جبل: {سبيل الرشّاد} بشد الشين، قال أبو الفتح: وهو اسم فاعل في بنيته مبالغة وهو من الفعل الثلاثي رشد فهو كعباد من عبد. وقال النحاس: هو لحن وتوهمه من الفعل الرباعي وقوله مردود. قال أبو حاتم: كان معاذ بن جبل يفسرها سبيل الله. ويبعد عندي هذا على معاذ رضي الله عنه، وهل كان فرعون إلا يدعي أنه إله، ويقلق بناء اللفظة على هذا التأويل.
واختلف الناس من المراد بقوله: {وقال الذي آمن} فقال جمهور المفسرين: هو المؤمن المذكور أولاً، قص الله تعالى أقاويله إلى آخر الآيات. وقالت فرقة: بل كلام ذلك المؤمن قديم، وإنما أرد تعالى ب {الذي آمن} موسى عليه السلام، واحتجت هذه الفرقة بقوة كلامه، وأنه جلح معه بالإيمان وذكر عذاب الآخرة وغير ذلك، ولم يكن كلام الأول إلا بملاينة لهم.
وقوله: {مثل يوم الإحزاب} مثل يوم من أيامهم، لأن عذابهم لم يكن في واحد ولا عصر واحد. و{الأحزاب}: المتحزبون على أنبياء الله تعالى، و{مثل} الثاني بدل من الأول. والدأب. العادة.
وقوله: {وما الله يريد ظلماً للعباد} أي من نفسه أن يظلمهم هو عز وجل، فالإرادة هنا على بابها، لأن الظلم منه لا يقع البتة، وليس معنى الآية أن الله لا يريد ظلم بعض العباد لبعض، والبرهان وقوعه، ومحال أن يقع ما لا يريده الله تعالى.
وقوله: {يوم التنادي} معناه ينادي قوم قوماً ويناديهم الآخرون. واختلف المتأولون في {التنادي} المشار إليه، فقال قتادة: هو نداء أهل الجنة أهل النار
{فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً} [الأعراف: 44]، ونداء أهل النار لهم: {أفيضوا علينا من الماء} [الأعراف: 50]. وقالت فرقة: بل هو النداء الذي يتضمنه قوله تعالى: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} [الإسراء: 71]. وقال ابن عباس وغيره: هو التنادي الذي يكون بالناس عند النفخ في الصور نفخة الفزع في الدنيا وأنهم يفرون على وجوههم للفزع الذي نالهم وينادي بعضهم بعضاً، وروي هذا التأويل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون المراد التذكير بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة، ولها أجوبة بنداء وهي كثيرة منها ما ذكرناه، ومنها «يا أهل النار خلود لا موت»، ومنها «يا أهل الجنة خلود لا موت»، ومنها نداء أهل الغدرات والنداء {لمقت الله} [غافر: 10]، والنداء {لمن الملك اليوم} [غافر: 16] إلى غير ذلك.
وقرأت فرقة: {التنادْ} بسكون الدال في الوصل، وهذا على إجرائهم الوصل مجرى الوقف في غير ما موضع، وقرأ نافع وابن كثير: {التنادي} بالياء في الوصل والوقف وهذا على الأصل. وقرأ الباقون {التناد} بغير يا فيهما، وروي ذلك عن نافع وابن كثير، وحذفت الياء مع الألف واللام حملاً على حذفها مع معاقبها وهو التنوين. وقال سيبويه: حذفت الياء تخفيفاً. وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو صالح والكلبي: {التنادّ} بشد الدال، وهذا معنى آخر ليس من النداء، بل هو من ند البعير إذا هرب، وبهذا المعنى فسر ابن عباس والسدي هذه الآية، وروت هذه الفرقة في هذا المعنى حديثاً أن الله تعالى إذا طوى السماوات نزلت ملائكة كل سماء فكانت صفاً بعد صف مستديرة بالأرض التي عليها الناس للحساب، فإذا رأى العالم هو القيامة وأخرجت جهنم عنقها إلى أصحابها فر الكفار وندوا مدبرين إلى كل جهة فتردهم الملائكة إلى المحشر خاسئين لا عاصم لهم، قالت هذه الفرقة، ومصداق هذا الحديث في كتاب الله تعالى قوله: {والملك على أرجائها} [الحاقة: 17] وقوله تعالى: {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} [الفجر: 22] وقوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا، لا تنفذون إلا بسلطان} [الرحمن: 33].
وقوله تعالى: {يوم تولون مدبرين} معناه: على بعض الأقاويل في التنادي تفرون هروباً من المفزع وعلى بعضها تفرون مدبرين إلى النار. والعاصم: المنجي.


قد قدمنا ذكر الخلاف في هذه الأقوال كلها، هل هي من قول مؤمني آل فرعون أو من قول موسى عليه السلام: وقالت فرقة من المتأولين منه الطبري: {يوسف} المذكور هو يوسف بن يعقوب صلى الله عليه. وقالت فرقة: بل هو حفيده يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب. والبينات التي جاء بها يوسف لم تعين لنا حتى نقف على معجزاته. وروي عن وهب بن منبه أن فرعون موسى لقي يوسف، وأن هذا التقريع له كان. وروى أشهب عن مالك أن بلغه أن فرعون عمر أربعمائة سنة وأربعين سنة. وقالت فرقة: بل هو فرعون آخر.
وقوله: {قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً} حكاية لرتبه قولهم لأنهم إنما أرادوا أن يجيء بعد هذا من يدعي مثل ما ادعى ولم يقر أولئك قط برسالة الأول ولا الآخر، ولا بأن الله يبعث الرسل فحكى رتبة قولهم، وجاءت عبارتهم مشنعة عليهم، ولذلك قال بإثر هذا: {كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب} أي كما صيركم من الكفر والضلالة في هذا الحد فنحو ذلك هو إضلاله لصنعكم أهل السرف في الأمور وتعدي الطور والارتياب بالحقائق. وفي مصحف أبي بن كعب وابن مسعود: {قلتم لن يبعث الله}، ثم أنحى لهم على قوم صفتهم موجودة في قوم فرعون، فكأنه أرادهم فزال عن مخاطبتهم حسن أدب واستجلاباً، فقال {الذين يجادلون في آيات الله} أي بالإبطال لها والرد بغير برهان ولا حجة أتتهم من عند الله كبر مقت جدالهم عند الله، فاختصر ذكر الجدال لدلالة تقدم ذكره عليه، ورد الفاعل ب {كبر} نصيباً على التمييز كقولك: تفقأت شحماً وتصببت عرقاً. و: {يطبع} معناه. يختم بالضلال ويحجب عن الهدى.
وقرأ أبو عمرو وحده الأعرج بخلاف عنه {على كلِّ قلب} بالتنوين متكبراً على الصفة. وقرأ الباقون: {على كلِّ قلبِ} بغير تنوين وبإضافته إلى {متكبرٍ}. قال أبو علي: المعنى يطبع الله على القلوب إذ كانت قلباً قلباً من كل متكبر، ويؤكد ذلك أن في مصحف عبد الله بن مسعود: {على قلب كل متكبر جبار}.
قال القاضي أبو محمد: ويتجه أن يكون المراد عموم قلب المتكبر الجبار بالطبع أي لا ذرة فيه من إيمان ولا مقاربة فهي عبارة عن شدة إظلامه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7